القوة الكبرى الحقيقية التي تقف وراء الاتفاق النووي الإيراني
وليد فارس الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية
لقد كان واضحاً منذ سنوات، وقد كتبنا عنها، وقدمنا شهادات في الكونغرس حولها، أن القوة الكبرى الحقيقية التي تقف وراء الاتفاق النووي الإيراني كتلة اقتصادية ومالية هائلة في أوروبا والولايات المتحدة، وفي الغرب بشكل عام، وشركاء هذا الأخير في آسيا الغربية وبقع أخرى، هذا من دون حسبان الصين وروسيا اللتين تتاجران مع إيران، بغض النظر عن الاتفاق.
جذور الصفقة
الحوار حول صفقة كهذه بدأ عملياً بعد انتصار “معارضة الديمقراطيين” بقيادة نانسي بيلوسي في الكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2006، ضد الأكثرية الجمهورية المؤيدة لإدارة جورج بوش وقتها، وكان من بين أبرز “مهندسي الكلام” مع طهران، السيناتور المخضرم جون كيري، والسيناتور اليساري الصاعد، باراك حسين أوباما، وأدى هذا الحوار عبر كتلة مرتبطة باليسار الأميركي التي ظهرت على الساحة السياسية منذ حرب العراق تحت أسماء مختلفة، منها “مجموعات ضد الحرب”، “Anti War” التي ركزت أساساً على منع أي حرب ضد إيران، تماماً كما كانت “مجموعات السلام” Peace Groups خلال الحرب الباردة تتظاهر ضد التعبئة العسكرية الأطلسية ضد الاتحاد السوفياتي، وتبين بعد سقوط السوفيات أن أكثرية هذه المجموعات كانت مرتبطة بالـ”KGB” وممولة منه.
أما مجموعات الـ”No War” فأعلنت جميعها في ما بعد تأييدها للاتفاق النووي، ما يرجح نظرية ارتباط معظمها بالنظام الإيراني، لا سيما أن بعض هذه الجماعات سافرت علناً إلى طهران بدعوة من السلطات، من كل هذه الترابطات يتبين أن جزءاً من اليسار الأميركي، وبشكل يناقض أيديولوجيته، تتلاقى مع مصالح نظام الملالي، على الرغم من بطش “الجمهورية الإسلامية” بالتيارات اليسارية الإيرانية لأكثر من عقدين، وإن عنى ذلك شيئاً، فإن تحالف مصالح قد قام بين النظام الإيراني وشريحة قيادية من اليسار الأميركي، على أساس مصلحة متبادلة، المجموعة اليسارية تقوم باللوبي لصالح “اتفاق” ما، وبالمقابل، تحصل على جزء من الأسواق بعد الاتفاق، ما يفسر استشراس جناح من الحزب الديمقراطي لفرض الاتفاق عبر السنوات، وصولاً إلى التوقيع والتنفيذ في 2015، ومحاولات العودة إليه في ظل هذه الإدارة، إلا أن المصلحة المشتركة بين “الراديكاليين الأميركيين” وإيران لم تكن كافية بمفردها لهندسة وإطلاق الاتفاق.
الشركات الاقتصادية وراء الاتفاق
صحيح أن القوة الضاربة الرئيسة وراء الاتفاق النووي موجودة في الأجنحة السياسية الراديكالية في الولايات المتحدة، وفي امتداداتها ضمن إدارتي أوباما وجو بايدن، ولكن القوة القديرة التي تشكل عمق الدعم المالي للوبي المؤيد للاتفاق ليست سياسية يسارية، بل اقتصادية، تجارية، وبيروقراطية، وهي التي تشكل الضاغط الأكبر على الإدارات، والمؤسسات، ومراكز الأبحاث، وبخاصة الإعلام، ولطالما تساءل كثيرون في العالم العربي، والشرق الأوسط، وأيضاً لدى الرأي العام الأميركي، عن أسباب قوة لوبي الاتفاق النووي في واشنطن وعناد إدارتي أوباما وبايدن في تصميمهما على الدفاع عن الاتفاق، وتشريعه، وحتى مواجهة الحلفاء في سبيل تمريره، والجواب بسيط، لكنه مصعق، إنه المال الذي يؤثر على مراكز القرار، والمصالح الاقتصادية التي تستقوي على المصالح الاستراتيجية الكبرى، بل تتحول الأولى إلى الثانية. والسؤال هو: ما هي هذه المصالح الاقتصادية؟
من دون أن نلجأ لتسميتها، شركات كثيرة وصناديق اعتماد، ومصالح رأسمالية كبيرة قد تم إقناعها من قبل سياسيين وأكاديميين وبيروقراطيين، اعتبرت الاتفاق النووي كباب يفتح أسواقاً جديدة للطاقة، واستثمارات كبيرة في الإعمار، والتجهيز، والطرقات، والمواصلات، والاتصالات، وحتى السياحة، أمام الشركات الأميركية كما فتحتها أمام المصالح الأوروبية من قبل، وتلك الشركات تعتقد أن النظام سيفتح “أبواب الجنة المالية” أمامها لتقوم بغزو مالي من دون رقيب.
وتعتقد أنها ستخترق كل أسواق المنطقة “الإيرانية” من أفغانستان إلى بيروت، لذا، فهذه الكتلة الاقتصادية “تستثمر” باللوبي في واشنطن وبروكسل، وتعمل على “تذليل العقبات” أمام العودة، كـ”البلدوزر”، “Bulldozer”، على ظهر الحلفاء الإقليميين، من تحالف عربي، وإسرائيل، ومعارضات عربية، وإيرانية، ومشرقية في المنطقة، هذا يفسر قدرة اللوبي أن يتغلب على ما نعتبره مصلحة الأمن القومي الأميركي في التأثير على السياسة الخارجية الأميركية الحالية.
“الورقة البرية The wild card”
ولكن ما يلوح في الأفق ضد مصلحة الاتفاق النووي في المنطقة، قد يشكل “ورقة برية” تأتي من حيث لا ينتظرها أحد، وتهدم بعض أساسات الاتفاق، وهذه الورقة بدأت في الظهور منذ بضع سنوات، ولكن، خاصة منذ خريف 2019، مع تفجر الانتفاضات المدنية في الداخل الإيراني، وعبر “المستعمرات الإيرانية”، فالاحتجاجات، والتظاهرات، والصدامات التي تفجرت في العراق، ولبنان، والمدن الإيرانية، أرسلت برسالة أولى إلى العالم: ألا وهي أن شعوب المنطقة ليست موافقة على اتفاق يستفيد منه النظام وميليشياته، ويفيد بعض المصالح الغربية.
والأحداث المتتالية الممتدة من الأهواز، أهم مناطق النفط في إيران، إلى وسط العراق وغربه، إلى شرق سوريا، إلى الساحل اللبناني المطل على المساحات النفطية في شرق المتوسط، إنما وكأنها تخاطب التكتلات الاقتصادية الغربية والأميركية قائلة، “لن تأخذوا هذه الثروات عبر النظام الإيراني، لأنها تدمر حرياتنا وأمننا وسياداتنا”، وما هو سلاح هذه المجتمعات المدنية لشل الاتفاق؟ بالطبع، إنها الثورات الشاملة التي تزلزل الاستقرار في تلك “المستعمرات”، والكتل الاقتصادية الغربية تهاب خطرين: الأول تجاري، أي إن تتكبد الخسائر بسبب الشلل الوطني في تلك الدول، والخطر الثاني هو الصورة السلبية داخل الغرب وأميركا، إذا ما أدرك الرأي العام أن مجتمعات المنطقة تتعذب على أيدي هذا النظام الذي أصبح شريكاً لهذه “الشركات المحترمة”.
أمران مكلفان لهذه المصالح، بالتالي ما قد يضعف، ومن ثم يسقط الاتفاق، لن يكون موقفاً حكومياً يشرئب للتضامن مع مقهوري المنطقة، ولكن “قلة الأرباح” للشركات الداعمة للاتفاق.
من هنا، فالمفارقة هي أن ثورات المشرق ضد النخبة الحاكمة في طهران، قد تكون هي “الورقة البرية” التي ستسقط الاتفاق ومنظوماته، عبر انسحاب المصالح الأميركية والأوروبية منه.
لنرى.
اندبندنت عربية