محمد العبيدي، من العراق إلى لبنان… نيتشه!!!
ربما يكون الفنان بحد ذاته المصدر الأهم لنقل صورة الواقع عن بلده أو بيئته من خلال إبدعاته الفنية ، وكيف إذا كان هذا الفنان مهاجرا من وطنه باحثا عن بيئة جديدة أو هوية فنية من نوع آخر، أدوات جديدة، تقنيات جديدة ، هاربا من واقع الحرب وما نتجت عنه، وخلّفت ورائها من أحداث ومآسي وحروب!!
محمد العبيدي المقيم حاليا في لبنان وفي عز الإنعاكسات السياسية والإنهيار الإقتصادي والإجتماعي والثقافي في البلاد، وجائحة كورونا، تجمد كل شيء حتى على الصعيد الفني أصبحنا في حالة خمول ثقافي وفكري وركود وفراغ وعدم، توقفت فيها المعارض وورش العمل حيث باتت خالية من روادها ومن حواراتها ولقاءاتها وندواتها الفكرية والثقافية بين الفنانين ومحبي الفن.
قمت بزيارة إلى منزل الفنان محمد العبيدي في الكورة في شمال لبنان. عندما دخلت عتبة منزله بدأت من حيث توقفت، عند عمل فني له كقناع مصاب بمسيلة للدموع في عينه، وكأنه يفسر عن حادثة واقعية بنقل صورة معاناة ومأساة شعب مما أثار دهشتي حينها، روادني شعور إن هذا المشهد التراجيدي ذاته رأيته هنا في لبنان، ومر من أمام عيني مشهد كالبرق أوكفيلم قصير، بيروت ساحة الشهداء حين امتلئت بالمسيلات للدموع وأصيب عدد من الشبان والشابات المحتجين اللبنانيين على أنغام الواقع السياسي الإقتصادي في البلاد. وهناك من فقد عينه بالرصاص المطاطي… حينها نقلت مسيلة للدموع كعبوة فارغة ونقلتها معي ووضعتها في سيارتي لأنقل ذات الهم في عمل فني وتركته على لائحة الإنتظار للتنفيذ لحين يأتي وقته.
لكن هذا الواقع عاشه محمد بشكل مختلف عند استشهاد الشاب العراقي بذات المادة الذي اصيب بها في عينه وإحتجاجا على ما وصلت اليه البلاد. لكن سرعان ما استيقظت من يقظتي، حينها أدركت ان الفنان العبيدي لا يوصّف ولا يحاكي ظاهرة الواقع القائم في لبنان في هذا العمل التراجيدي بل يحاكي قصة تراجيدية، شعب يذبح ويغتال ويقتل ويرمى عليه كمية من المسيلات للدموع هو الشعب العراقي جذور الفنان الأصيلة الذي ينتمي إليها، كما مشهدية الواقع في لبنان، حتى أحد المنتفضين أو الثوار في العراق اصيب في عينه نتيجة رمي المسيلة وأستشهد، إنها قصة واقعية وليست من نسج الخيال ولكن معالجة الموضوع وتحويله لعمل فني فرض أهمية الاشكالية في هذا العمل الفني.
ان وجودية الفنان وتمسكه في جذوره كان هناك عامل زمني في التوقيت وفي التنفيذ والسبب والمسبب، عمل يمزج بين رومانسية لغة العقل وبين ميتافيزيقة للحياة الحقيقية عند الفنان، رغم انه يعاني من الهجرة خارج وطنه. نفّذ القناع في العراق وعندها أتى به الى لبنان ليضيف عبوة مسيلة للدموع ووضعها في عين القناع بخطوة عفوية ومدروسة في آن واحد, وكأن محمد يتكلم عن لغة جديدة لغة الحداثة لغة بصرية تتناغم مع العصر لغة ابتعاد الفنان عن النظام الحكم الجمالي والتغني بروح حرة، وكأنه أيضا يدعونا من خلال عمله للعودة إلى الجذور وإلى فطريتنا الأولى وإلى حقيقة غرائزنا. يلعب في الشكل كولد مراهق بغرض توظيف الموضوع، يحمل رسالة تعكس الواقع في حينه. وعن كسره للمثالية وعدم التزام الفنان في قانون وقواعد علم النسب المنظور.
تظهر الإرادة القوة عند الفنان بأخذ قراره بنفسه وبصلابة وثقة بالنفس واضحة وكأنه يؤكد لنا إن غريزة الفنان على صواب لأنها تسمح للإنسان في الخروج عن قواعد التقاليد، على قاعدة كل شيئ مسموح به. هنا تفوح رائحة نيتشه ولغته عن الفن وروادني شعور هناك عودة لديونيزوس في المظهر الفني وكأن الفنان باللاوعي لديه وعبر روحه وجه دعوى للإله الإغريقي ديونيزوس ليأتي ويضع لمساته التدمرية للمثالية ليخرج عن نظام الحكم الجمالي للشكل. هنا ديونيزوس يعود ليتحول معه العمل من عمل صامت كطفل ميت بلا روح بلا تعبير خارج عن نظام الفوض ليحوله بالأخير الى عمل فني معبر عن حقيقة الواقع والحدث.
وفي هذه الحالة تظهر إرادة وغريزة قوة الرفض لحقيقة الواقع المقلق والمعاناة عند الفنان. وكما أرى في حالة تكوين العمل هناك شعور بفرحة الألم الناتجة عن إرادة لإستمرارية عملية تطوير في عمله الفني- ذلك الفرح الذي هو أيضا يشمل فرح في التدمير. “كطبيعة المأساة المعادية لأرسطو” حسب وصف نيتشه. ليخرج في منطق جديد يتفرد به الفنان. كقوة في تكوين الشكل، إنها اللغة التشكلية والبصرية قوة المواد المستخدمة كالمسيلة للدموع كمادة بحد ذاتها تحاكي وتلامس الواقع المؤلم. كمادة البرونز التقليدية لديه، ورمزية القناع وقوة ضربات أثر لمسات الفنان على المنحوتة ليشعرنا إن لديه قوة وقدرة على التعبير في تجسيده للمشاعر، و من المستحيل تظهر هذه المشاعر في الأعمال المثالية التقليدية القديمة، وكأنه يحيي لنا أسطورة قديمة عند الأغريق بعودة الإلهين الأغرقيين ديونزوس وأبولو ليولدوا لنا فنا جديدا عند انفجار صراعاتهم الدائمة لإستمرارية تطوير الفنون عبر هذين الألهين، هذه هي ولادة المأساة وهنا نيتشه.
وهنا نستخلص واجهة الطبيعة وعمقها الداخلي عند الفنان في عمله المقنع، هي واجهة يتم بنائها من الداخل إالى الخارج للعالم الظاهري وهذه هي الميتافيزيقيا عنده، لتكشف لنا وفي عملية معقدة للغاية عند بدء الفنان في تكوين عمله الإبداعي كان يبحث عن الأصل والأصالة وكان في ذروة النشوة وهذا العمل الإبداعي ولد من نشوة الفنان الإبداعية .
وكأن نيشته يتجول بين العراق ولبنان !!! كيف لا وهو من وضع لنا لغة ومفاهيم وأسس جديدة للفن ووحد لغة العالم في الفن وهو من وصف الفن ” “بأنه يّمثل المهمة الأعلى للنشاط الميتافيزيقي الحقيقي للحياة “.
إن فكرة القناع عند الأغريق يرمز الى satyr ويذكرنا في المهرجانات الدينوسية . فنشوة محمد العبيدي التدمرية في مواجهة هذا القناع. والمنحوتة من ناحية ، ولدت من إدراكه المباشر للحياة ومن المعاناة، ومن ناحية أخرى أن كل انحناء وتجويف يتشكل بحساسية يد المبدع ، كل ضربة حادة أو نحت رقيق، يعبر عن المشاعر المباشرة للفنان، ويجب أن يؤخذ في عين الاعتبار ذلك عند عرض هذا العمل لكي نتصالح مع ما يقدمه الفنان، وأن نتذكر أولاً ما قيل أعلاه بشأن وصف نيتشه لنفسه بالمنحط وهو نقيض ذلك ، والطريقة التي أصبح من الضروري بها التدمير للشكل ، وثانيًا ، الحاجة الموصوفة بقلم نيتشه في ولادة مأساة الإغريقية مجيء ديونيسوس وبدء الصراع بينه وبين الأبولوني لإنشاء نظام جديد من الرموز.
كاتب المقال : ريمون أبو حيدر
عضو جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت.