المسمار الأخير في نعش العونيّة السياسيّة
قاسم يوسف – أساس ميديا
على طريقة مُعمّر القذّافي، ملك ملوك إفريقيا، أرسل ميشال عون ما يشبه الفرمان “المستحسن تعبئته” إلى الرئيس المكلّف سعد الحريري. وهي خطوة جنونيّة لم يسبقه إليها أحد، حتى أباطرة النظام السوريّ وأذرعته وأبواقه في عملية تشكيل الحكومة، من إميل لحّود وجميل السيّد، الحاكم بأمره وقتذاك، وصولاً إلى رستم غزالي وغازي كنعان.
قد يصعب على النخب وعلى العوامّ وعلى كلّ معاقل الدبلوماسيّة في العالم، أن يفهموا وأن يستوعبوا خلفيّة هذا السلوك الاستفزازيّ من رئيس مأزوم ومعزول في دولة تهرول برمّتها نحو الجحيم. وهو سلوكٌ لا يستهدف الصلاحيّات والشكليّات وحسب، بل يتخطّاها إلى ما يشبه الاعتداء الموصوف على شخص الرئيس المكلّف، وعلى موقعه، حيث بدا أنّ اللغة المستخدمة في متن الفرمان لا تليق برئيس الجمهوريّة اللبنانيّة، ولا بموقعه، ولا بمكانته، ولا حتّى بالأساليب البدائيّة للتخاطب بين الناس.
أساساً، ولا بدّ من العودة دائماً إلى الأساس، العونيّة السياسيّة هي صنو البذاءة. صنو التجاسر. صنو المرضيّة القصوى. هي نظير الحقد والكراهية المتجذّرة في أعماق النفوس. وهي الصورة الأشنع والأبشع عن منتهى الوضاعة السياسيّة والتصحّر الاجتماعيّ والانهزام الأخلاقيّ. ولو كان لنا أن نستحضر الصورة النمطيّة التي طبعها ميشال عون في أذهاننا منذ عودته من المنفى، لتذكّرنا في عُجالة منقطعة النظير الكثير الكثير من صراخه واستفزازه وشتائمه وتحقير خصومه الذين يبدأون بكلّ مختلِفٍ معه في الرأي أو السياسة، ولا ينتهون بوسائل الإعلام، التي عانت منه ما عانته على مدى عقد ونيّف.
في كل الأحوال، حسناً فعل سعد الحريري حين حمل الرسالة وأعادها إلى صاحبها وكأنّها لم تكن. احتفظ بنسخة منها للتاريخ، لأنّ أمثال هذه السابقة قد لا تتكرّر في العمر مرّتين.
لكن بعيداً من الشكل، رغم أهمّيّته ومحوريّته واستثنائيّته، ماذا عن المضمون؟
الثابت والمؤكّد والموثّق أنّ ميشال عون يريد الثلث المعطّل في الحكومة. عطّل الحكومة خمسة أشهر بهدف الحصول عليه. لم يأبه مذّاك لانهيار البلد برمّته، ولا لمواجهته خطر الزوال والاختفاء، على حدّ تعبير رأس الدبلوماسيّة الفرنسيّة، ولا لعذابات الناس، ولا لوصول الدولار إلى مستويات تاريخيّة. لم يأبه لشيء من كلّ هذا، بقدر تصميمه وإصراره على الحصول على الثلث المعُطّل. هل لأحد في هذا العالم أن يُخبرنا لماذا؟
الجواب بسيط، بل وبسيط جدّاً. ميشال عون يريد توريث صهره جبران باسيل. والأصحّ أنّ الرئيس الفعليّ جبران باسيل يعمل لتمهيد الطريق لحلمه الذي لن يتحقق بأن يصبح الرئيس الرسميّ. وهو يريد ثلثاً معطّلاً، لأنه يظنّ أنّ هذه الحكومة ستبقى حتى نهاية العهد وستواكب الشغور الرئاسيّ، فيريد أن يُمسك السلطة السياسيّة من رقبتها إلى حين الرضوخ لمطالبه، وهي على وجه الخصوص: انتخابه خلفاً لعمّه، أو بالحدّ الأدنى ضمان حق “الفيتو” على اسم الرئيس المقبل.
هكذا، بكل بساطة، هو المضمون الرهيب لهذه التفاهة، ولهذا العهد الذي عمّم الخراب وأحرق البلد كرمى لعيون نزقٍ يمتهن الابتزاز ويحترف التحريض، وقد جنّ جنونه عقب العقوبات الأميركيّة التي كانت صفعةً مدوّيةً لكل مستقبله السياسيّ، وبذلك يصير تصرّفه مفهوماً، إذ إنّه يلعب آخر أوراقه قبل السقوط الكبير.
باغته سعد الحريري، وباغتنا جميعاً. تماماً كما لو أنّه استفاق من غيبوبة أخذته بعيداً من الحقائق الساطعة وكأنّها قرص الشمس في وضح النهار. كنّا نظنّ أنّه ذهب بعيداً، بعيداً جدّاً، في لعبة التسويات اليوميّة القاتلة. لم نتوقّع، بل لم نحلم بأن يقول ما سمعناه. لقد أعادنا بزخم بقوّة إلى صلب العمليّة السياسيّة والوطنيّة، التي لا بدّ أن تبدأ بعزل ميشال عون وإسقاطه، وإسقاط مَن معه مِن المجانين.
رغم كل السواد المحدِق بنا، اليوم هو يومٌ أبيض في تاريخ لبنان الحديث، لأنه يؤرّخ رسميّاً لبداية نهاية العونيّة السياسيّة الحليفة الأخيرة للحزب، بعد أن دقّ سعد الحريري آخر مسمار في نعشها.
الآتي أعظم. تجهّزوا جميعاً وشدّوا الأحزمة