حكي تنور .. السلم بالعرض (بقلم عمر سعيد)
السلم بالعرض
لم يكن التنور بحاجة الى سلم للصعود إلى سطحه، وحدله شتاء، لأنه كان منخفض السقف، يمكن للمحتفظ ببقايا من حَيْله؛ تسلق حيطه العكش، لبلوغ السطح.
كانت محدلة التنور تدور بيوت القرية صيفاً، خلال مناسبات الأعراس واحتفاليات الشباب العفوية وسط الساحة مع غروب الشمس من يوم لآخر.
كانت محدلة ثقيلة جدا، ويجزم أحكم حكماء مجتمعه، أنها ثاني أكبر محدلة في القرية، بعد محدلة بيت المختار.
لأنه حتى في معايير الحجارة، ينبغي أن تكون حجارة الحاكم أكبر من حجارة الشعب، وإن كانت لجدار مؤسسة عامة كالتنور.
كان أزمة القرية تبدأ مع مطلع هطول الثلج كل شتاء، من أجل تحديد مكان تواجد المحدلة في القرية، والذي كان يحتاج أحياناً أياما وأسابيع من السؤال، تنطلق رحلة تتبع مكانها من إجابة:
” آخر مرة شفتها عند بيت فلان”.. إلى أجابة: “سمعتهم يقولون أن فلان نقلها إلى بيته في عرس ابنه”.. وتستمر أياماً؛ حتى يبلغ القوم مكان المحدلة.
ثم تبدأ أزمة جديدة جوهرها ” كيفية الانتخاء لحمل المحدلة، وإعادتها إلى مكانها فوق سطح التنور”..
فالوقت شتاء، ولا فتيات يزغردن لحامليها عند عبورهم أزقة القرية، ولا أعراس تحشد فيها أوراك الصبايا وصدورهن التي ترفع مستوى الأدريالين في الشباب، وتثير الحمية لفعل ذلك.. لذلك كانت طريق عودة المحدلة إلى سطح التنور أطول بكثير من طريق انتقالها الى الأعراس بداية كل صيف.
فللبدايات ألف أم وأب، ولطالما ظلت الخواتيم يتيمة.
وعلى الراغب بإعادتها أن يقوم بخيار من اثنين: إما أن يدحلها أمامه، كل المسافة التي تفصل بينها وبين التنور في أزقة موحلة، وعرة، تضيق هنا، وتتسع هناك.. أو أن يحضر عربة، يرفعها، ويضعها في جوفها، لبتدأ مشقة دفع العربة إلى التنور، في قرية على سفح جبل.
وكما في كل مجتمع دائما ودائما هناك من يحمل السلم بالعرض.
كانت الغالبية من سكان القرية تحمل السلم بالعرض، وتبدأ حلقات النقاش والجدل سعياً لإيجاد حلول وطروحات، نادراً ما تكون واقعية، ولكم خرجت توصيات، تظل بكل تفاصيلها سلم جلسات ليالي الشتاء المحمول بالعرض.
وتطول المحادثات والمماحكات حول ضرورة إنهاء وضع المحدلة، والبت في أمرها.
فتؤسس لجان خدمة لذلك، وتوكل إلى اللجنة مهام إعارتها وإعادتها ومتابعة حاجيات المحدلة، ثم تفشل اللجنة مع نهاية كل شتاء، لأن أحداً رمى المحدلة عن سطح التنور وحملها، لا شوراً ولا دستوراً (واللجن ليست خيال صحرة). وهنا يحضرني تساؤل حول سبب استخدام كلمة دستور بمعنى ( أستأذن ) في لفظنا الشعبي، دون أن أفهم التعليل.
ويؤجل الكلام حول انتقال المحدلة إلى بداية الشتاء التالي، لتقوم لجنة جديدة، وتكون أولى مهامها محاسبة اللجنة القديمة، التي يبرر أبرز عقلائها التقصير بأنهم: ما حبوا يحملوا السلم بالعرض.
والسلم في مجتمعات حكي تنور لا يحمل إلا بالعرض..
لأنه وفي الأساس، لا يجود ولوسلم واحد يحمل بالطول في تلك المجتمعات.. فكل سلالمنا قد صممت لتحمل بالعرض.
ولشدة ما حملنا سلالمنا بالعرض، بات منطقنا يقضي بان حمل السلم بالطول هو خطأ علمي وجودي، لأن واقعنا قد صنعته إقامة هكذا موروثات في عقولنا ولفترات طويلة جداً وجداً.
فكل ما يطيل الإقامة فينا، يصبح منهجاً وقاعدة وعقيدة ترثها الأجيال، وتقدسها على عللها، ليصبح الخروج عليها خروجاً على السماء.
لذلك أنا من المؤمنين أن النظرية الصحيحة، لا تكفي صحتها، ولا دقتها مهما كانت صحيحة ودقيقة، لأن الخطورة تكمن في كيفية التطبيق.
وما دام التطبيق في مجتمعات حكي التنور يسبق ولادة النظرية وبكثير من الوقت، سيظل سلمنا محمولاً بالعرض، وسيظل حامله يتجول فيه، يهر كل ما يعترض مروره، محطماً ذات اليمين وذات الشمال.
وسيكون كل محاول لتعديل السلم، هو الحمّال الجديد للسلم بالعرض، وما علينا إلا تحطيمه وسلمه الذي يحال أن يوقظنا من جهلنا العميق.
عمر سعيد