13 تشرين: لم أعد عونياً! (ايلي كلداني)
ايلي كلداني – درج
لا أذكر متى أصبحت عونياً، ولكنني أعرف الآن أنني لم أعد كذلك لأن عون نفسه لم يعد عونياً…
لا أذكر متى أصبحت عونيّاً، ولكن أذكر جيداً التحول السياسي الذي أحدثه العونيّون في عكار. قبلهم كانت الحياة السياسية بالنسبة إلينا مملة، مجرّد مزيج من العائلية والعشائرية والكثير من المال، إضافة إلى المهرجانات الانتخابية التي غالباً ما كانت تتخللها مواقف مضحكة يتندر عليها العكاريّون حتى بعد انتهاء موسم الانتخابات. دخل العونيون إلى الانتخابات ووجدنا أنفسنا نلبس البرتقالي، نشارك في اجتماعات انتخابية، نعتلي شاحنة صغيرة مملوءة بأجهزة الصوت، ندور بها على القرى والبلدات مع أغانٍ حماسية كـ”عونك جايي من الله” و”نزل التيار عل أرض”، يتخللها بعض الخطابات الشهيرة للعماد عون كما يحب اهالي عكار مناداته.
قبل عام 2005 كنّا ننظر إلى العونيين كأبطال ونسمع قصصاً عن جنود التحرير والحرية والسيادة والاستقلال، عن الشباب الأوادم المثقفين المندفعين في معركتهم مع الاحتلال السوري، الذين لا يخافون ويتعرضون دائماً للملاحقة، وكلنا نعرف ماذا تعني كلمة “ملاحقة” في ذلك الزمن وكمية الخوف التي ترافقها. شباب يرسمون شعاراتهم على الجدران، آخرون يهرّبون مجلات أو خطابات العماد عون على أشرطة مسجّلة، يجتمعون سراً ويخططون لبعض التحركات في قلب عكار. نسمع قصة الشاب الذي يضع منشورات ممنوعة داخل فرّوج أو بعض الحوادث التي تواجه الشباب على حاجز الجيش السوري في دير عمار وكيف أسعفهم الحظ بالمرور.
بالنسبة إلينا كثلّة من الرفاق، كان ميشال عون يمثل أحلامنا، وبطريقة ما كان أول صلة وصل سياسية بيننا وبين أهالينا. فنحن أصحاب أفكار ثورية كانت مرفوضة رفضاً تاماً في قريتنا، حتى أننا مُنعنا من ارتداء قمصان مرسوم عليها “منجل وشاكوش” بحسب تعبير والدي، إلى جلسات التحقيق التي كان يتولاها والد أحد الأصدقاء بصرامة وحدة لمعرفة رأينا بالشيوعية وغالباً ما كانت تنتهي بصراخ وتهديد ووعيد لأننا “عم نجيب الأفكار الشيوعية على الضيعة، وهذا شيء لن يمرّ”. ثم أتى ميشال عون وشعرنا بأنه يتكلم مثلنا: ثائر يتكلم عن العلمانية والدولة المدنية ويكره الطائفية، يريد محاربة الفساد وإنهاء الإقطاع، يتكلم عن العدالة الاجتماعية والإنماء المتوازن، يهاجم سياسات رئيس الحكومة السابق الراحل رفيق الحريري التي أفقرتنا… هذه الأفكار كانت أفكارنا، وأصبح العماد عون، “الرفيق البرتقالي”.
لا أذكر متى أصبحت عونياً، ولكنني أعرف الآن أنني لم أعد كذلك لأن عون نفسه لم يعد عونياً. تلك الأفكار التي تشاركناها، انقلب عليها كلها، فعكار التي تفتقر للإنماء المتوازن أصبحت بنظره بؤرة للإرهاب والتطرف وخارجة عن القانون. العلمانية والدولة المدنية أصبحتا خطاباً طائفياً عن حقوق المسيحيين وخطاب الـ”نحنا وهني”. محاربة الفساد أصبحت نريد حصتنا. الإقطاعيون والحريري أصبحوا حلفاء وأصدقاء.
هذه المقدمة هي مراجعة لسنوات أمضيناها بتكرار خطابات وشعارات أثبتت الأيام أنها فارغة ولا تحمل أيّ خطة، فعكار ازدادت فقراً وحرماناً. الشرخ الكبير الذي أحدثته الحالة العونية في عكار، كادت تؤدي في بعض الأحيان إلى إشكالات طائفية، إضافة إلى أن عكار لم تستفد من العونية السياسية بشيء سوى بعض الوظائف للمحسوبين على “التيار الوطني الحر”. هذا فيما يذكر الأهالي جيداً جولات جبران باسيل الدائمة على قرى عكار التي لم تستثنِ أي قرية، حتى تلك الصغيرة والنائية التي لا يعرف بوجودها أحد، المهم أن تكون قرية مسيحية. خلال تلك الاجتماعات كان جبران باسيل يحرص على مناداة بعض الأشخاص “المفاتيح” بأسمائهم، حتى أن أحد الأصدقاء كان يقول لي إن جبران يطّلع على صور هؤلاء الأشخاص ويحفظ أسماءهم قبل دخول الاجتماعات وذلك لخلق شعور بالاهتمام بينه وبين الحاضرين.
بالنسبة إلينا كثلّة من الرفاق، كان ميشال عون يمثل أحلامنا، وبطريقة ما كان أول صلة وصل سياسية بيننا وبين أهالينا.
كل الحركات السياسية تتعرض خلال مسيرتها لانتكاسات. الصعود السريع للحالة العونية أو “التسونامي” كما سمّاه وليد جنبلاط تبعه انهيار سريع أيضاً، وهذا الانهيار لم يبدأ بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كما يعتقد البعض، بل قبل ذلك بسنوات. تعرضت العونية السياسية للكثير من الهزات في السنوات الأخيرة، وكان ذلك ينعكس تذمّراً وانتقاداً على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنّ العونيين لم يعيروا الأمر أهمية. لم يلاحظوا التململ في صفوف المنتسبين، لم يلاحظوا أنهم يفقدون المناصرين، لم يسألوا أنفسهم لماذا تتراجع شعبيتهم، لم يراجعوا مواقفهم. كانت قياداتهم سعيدة وفخورة بمئات المطبلين الفايسبوكيين. العونية التي بنت تاريخها كمدافع عن الحرية والتحرر أصبحت أكثر حركة سياسية ترفع دعاوى وتهدد بالقضاء. العونية التي لطالما تفاخرت بأنها تضم نخبة من المتعلمين والمثقفين وترى انتصاراتها في الجامعات دليلاً على ذلك، لم تعد تجد فيها شخصاً واحداً تستطيع مناقشته أو مجادلته، فتنصاع لنصيحة المثل الجديد “لا تجادل عونياً”. أصبحوا يستنسخون تجارب التطبيل الرائجة في الأنظمة العربية ويعممونها على مناصريهم فأصبحوا نكتة سمجة ومضحكة. تناقشهم بالأرقام فيردون بالحديث عن المؤامرات التي تستهدف العهد. تستشهد بمقال من جريدة فيحدثونك عن ماسونية كاتب المقال. منشوراتهم أصبحت مضحكة ومادة للتندر تتناقلها مجموعات “واتساب”: “شو جديد العونية اليوم؟” هو سؤال صباحي مضحك تبدأ به يومك.
منذ سنتين تقريباً، اتصل بي مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية وطلب حضوري للتحقيق معي بدعوى مقدمة من أحد العونيين. أمضيت نهاري أراجع “فايسبوك” لمعرفة المنشور المقصود، فصفحتي تعجّ بالانتقادات والسخرية من العونيين، بعضها قاس وبعضها الآخر قد يعتبر تطاولاً. حضّرت نفسي للأسوأ طبعاً. في اليوم التالي في مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية اكتشفت أن المنشور المقصود، يتضمن قولي لأحد العونيين: “انفخوا”. هذه الكلمة التي درج استعمالها منذ تظاهرات 2015، أزعجت عونياً دخلت معه في نقاش واستفزني عندما نعتني بـ”الأهبل”. تحوّل التحقيق في المكتب المذكور إلى درس في القواعد: ماذا تعني كلمة انفخوا؟ ماذا تحمل من معانٍ؟ فصرت أحاول أن أشرح للمحققين الكلمة، وأن لها مشتقات كثيرة. دعوى سخيفة تستأهل نقاشاً سخيفاً. هذا ما آلت إليه أمور العونيين. يجرونك لتكتشف عمق السخافة التي يعيشونها. هناك دعوى مرفوعة ضدي في القضاء اللبناني بسبب هذه الكلمة. تبلغت بالدعوى في آذار/ مارس، وتم تأجيل الجلسة بسبب “كورونا” والإقفال، ليعاد تحديد جلسة في شهر أيلول/ سبتمبر، يتابعها الآن محام، أصيب بصدمة حين أعلمته بمضمونها.
“من صورة معلقة على الحيط خافوا ونسيوا أساميهن”، هكذا كانت تقول الأغنية عن ميشال عون. اليوم وبعد 15 سنة من عودته تغيّر هذا الرجل كثيراً، وتغيّر أتباعه أيضاً، أما صورته المعلقة على جدران التواصل الاجتماعي، فما عادت تخيف أحداً بل أصبحت (عذراً لعدم كتابة الوصف فلست بحاجة إلى دعوى أخرى).
الآن وقد حلّت ذكرى 13 تشرين الأول، وهي المعركة التي سقط فيها مئات الجنود اللبنانيين على يد القوات السورية التي هاجمت قصر بعبدا، بعد استسلام ميشال عون ولجوئه إلى السفارة الفرنسية… وهي الذكرى التي طبعت صورة عون البطل في أذهان كثيرين، أودّ أن أقول، لم أعد عونياً، لقد شُفيت! العقبى للآخرين.