اللبنانيون الأرمن إلى الجبهة في كاراباخ كما في الـ88
جورج العاقوري _ احوال ميديا
رواسب الصراعات التاريخية المتجذّرة في أعماق الزمن والنزاعات الجغرافية المستدامة تلاحق الشعوب، خصوصاً متى إختلفت البنية الديمغرافيّة عن الحاضنة السياسية الرسمية التي تتمثّل اليوم بشكل أساسي بنظام “الدولة”، فيتحوّل الأمر الى صراع أولويات بين ألاولوية المطلقة للإنسان وحريته وراحته وأولية وحدة الارض أو الإطار الجغرافي مع كل ما يحتاجه من مبررات تاريخية أو قومية أو وطنية.
غير أنّ ما شهده القرن العشرين من إدراج “حق تقرير المصير” كجزء من ميثاق الأمم المتحدة (في تعديل عام 1951) – رغم القيود التي وضعها القانون الدولي – شكّل نقلة نوعية في تكريس مبدأ أولوية الجماعة الإنسانية على حساب الكيانية المادية.
كما أنّ التجارب البشرية أثبتت أنّ فرض دولة غير مرغوب فيها على أقلية مهما طال يبقى كجمر تحت الرماد. هذه هي حقيقة ما تشهده أرتساخ ( أي كاراباخ بجزأيها الجبل – أو ما يعرف بناغورنو كاراباخ – والساحل) وهذا هو جوهر الصراع بين غالبية ساحقة أرمينية ( أكثر من 90% من السكان) على أرض كانت خاضعة لجمهورية أذربيجان، فيما هي جزء لا يتجزّأ من أرمينيا التاريخية.
أوجه عدة للصراع في أرتساخ اليوم، فهو في الأساس قومي بين شعب أرمني ودولة أذربيجانية هي واحدة من ست دول تركية مستقلة في منطقة القوقاز في أوراسيا، وتشكّل جزءاً من الحلم الطوراني الذي قام مع حركة سياسية قومية ظهرت بين الأتراك العثمانيين أواخر القرن التاسع عشر، وهدفت إلى توحيد أبناء العرق التركي (طوران هي المنطقة الممتدة ما بين هضبة إيران وبحر قزوين مهد القبائل والشعوب التركية).
كما أن العامل الجيوبوليتيكي يحضر بقوّة في منطقة على خطّ الزلازل السياسية بين لاعبين تاريخيين أكان روسيا أو تركيا أو إيران، خصوصاً مع الإنفلاش المستجد للدور التركي من سوريا الى ليبيا الى آذربيجان.
بالطبع لا يغيب طيف العامل الديني، فمملكة أرمينيا كانت أول دولة تعتمد المسيحية دينًا لها مطلع القرن الرابع، وهناك تماهٍ بين الهوية القومية والدينية وقد دفع الأرمن ثمن إيمانها غالياً عبر التاريخ. فيما السواد الاعظم من آذربيجان مسلم شيعي وهو أقرب الى تركيا السنية منها الى إيران الشيعية.
قرن من الصراع الدموي
يكاد يمضي قرن من الصراع الدموي على أرتساخ بين أرمينيا وآذربيجان اللتين شكلتا إحدى الدول الخمس عشرة التي تألف منها الاتحاد السوفياتي، بعدما قرر الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين في 1923 ضم الإقليم بغالبيته الأرمنية يومها إلى أذربيجان ومنحه حكماً ذاتياً. وقد تفعّل هذا الصراع مع ظهور معالم تفكك الإتحاد السوفياتي في 1988، حيث اندلعت حرب شرسة تخلّلها إعلان السكّان الأرمن قيام دولة أرتساخ المستقلة عن أذربيجان في نهاية 1991 دون أن تحظى بأي إعتراف دولي.
خلال تلك الحرب إستطاع الأرمن السيطرة على إقليم كاراباخ، إضافة لإحتلال منطقة متاخمة للإقليم ضمن أراضي أذربيجان، بهدف جعلها منطقة منزوعة السلاح.
إنتهت المواجهات المسلّحة بتوقيع هدنة عام 1994 تلاها توقيع إتفاق عام 2008 بين أرمينيا وأذربيجان من أجل تسوية سلمية للنزاع. لكن هذه الهدنة شهدت جولات من القتال أبرزها في آب 2014 ونيسان عام 2016 والجولة التي إنطلقت اليوم.
فور تجدّد الصراع، إجتاحت اللبنانيون من أصل أرمني مشاعر التضامن مع ابناء قومهم في كاراباخ الى حدّ توجّه بعضهم للقتال هناك أكان من الشباب أو من المقاتلين الذين شاركوا في جولات قتالية سابقة في الاقليم في نهايات ثمانينات القرن الماضي. فهل يتحوّل هذا العمل الفردي الى جماعي منظّم من خلال الأحزاب الأرمنية في لبنان كما جرى لدى إنطلاق حرب العام 1988؟
بقرادونيان: إسرائيل تسلح وتدرب الأذريين وتركيا تستقدم الارهابيين من سوريا
امين عام حزب “الطاشناق” النائب هاغوب بقرادونيان يشير الى أن اللبنانيين الأرمن متعاطفون ككل الديسبورا الأرمنية مع إخوتهم في كاراباخ. ويؤكد أن هناك حماساً كبيراً في أوساط الشباب الأرمن للتوجّه الى هناك والقتال دفاعاً عن الأرض والحق. يضيف: “في حرب 1988 كانت الاحزاب الارمنية تتولى إرسال المقاتلين من لبنان الى أرمينيا، أما اليوم فييريفان ليست بحاجة لمقاتلين. ندعو شبابنا الى البقاء في لبنان ودعم القضية سياسياً ودبلوماسياً واعلامياً وحتى مادياً رغم الوضع الصعب. لكن لا نستطيع منعهم من الذهاب وقد أصبح قسماً منهم اليوم على الجبهات. لم نرسل مجموعات منظّمة إذ نحن بحاجة الى شبابنا في لبنان، ويمكن للأرمن في دول أخرى أن يرسلوا مجموعات الى القتال”.
وفي قراءة له، يعتبر بقرادونيان أنّ الهجوم على أرتساخ محضّر له منذ أشهر حيث كان الخطاب من قبل أذربيجان أو تركيا خطاباً تمهيدياً للحرب، ويردف: “الحرب تندرج في إطار التدخّل التركي في أكثر من بلد في المنطقة لإعادة إحياء الحلم الطوراني. إنّها آخر حرب في المنطقة يخوضها الارمن. تجدر الإشارة الى أن 70% من سلاح الأذريين مصدره إسرائيل التي أرسلت لهم خبراء عسكريين ايضاً. كما أن تركيا تعمل على نقل مرتزقة وإرهابيين من سوريا الى الجبهة”.
أكوبيان: الأرمن في أرتساخ منذ آلاف السنين و Levi’s أقدم من أذربيجان
رئيس حزب “الرامغافار” سيفاك اكوبيان رفض الحديث عن إنفصاليين أرمن في أرتساخ، مشدداً على أن الأرمن هناك منذ آلاف السنين وهم شعب يحق له بموجب إعلان حقوق الانسان تقرير مصيره، مضيفاً: “لا وجود لأذربيجان قبل 1918 كانت اجزاء موزعة على روسيا القيصرية وإيران وأرمينيا. “جينز” Levi’s أقدم منها فقد تأسس عام 1853. جرى استفتاء في التسعينات في الإقليم وقرر سكانه ألا يكونوا ضمن دولة أذربيجان. فأعلن إستقلال جمهورية أرتساخ التي تتمتع بالمقومات والمؤسسات اللازمة في أي جمهورية. لسوء الحظ لا إعتراف دولي بهذا الاستقلال. ليبيا وسوريا والصومال دول معترف بها دولياً ولكن ما قيمة ذلك؟ الحرب اليوم تندرج في حق شعب بتقرير مصيره. نرفض وضعها في إطار الصدام الطائفي المسيحي – المسلم، فالعامل القومي أقوى من العامل الديني. من هنا نرى التحالف التركي الأذري بغية إقامة طوران الكبير”.
أكوبيان الذي أكد أن “حتى هذه اللحظة لا يبعثون بشباب للقتال هناك، شاطر بقرادونيان الرأي أن توجه اللبنانيين الأرمن للقتال اليوم في كاراباخ إفرادياً لا كما في حرب 1988 حين توجهت مجموعات من لبنان للقتال هناك ضمن إطار تنظيمي من قبل الاحزاب الأرمنية في لبنان. كما يوضح بعض العوامل: “هجرة الأرمن بعكس السير، فعادة في ظلّ الحروب تشهد الدول هجرةً إلى الخارج أمّا الشعب الأرمني فبالعكس في ظل الحروب يعود الى أرمينيا. مع الإشارة الى أنّ قسماً كبيراً من اللبنانيين الأرمن إستعادوا جنسيتهم الأرمنية وخدموا خدمة علم هناك، فحكماً سيلتحقون في الجيش للقتال لأنه تم إعلان التعبئة العامة وكل من يبلغ من العمر 50 سنة وما دون وهو في الاحتياط ملزم الإلتحاق بالقوى العسكرية الارمنية”.
اللبناني – الأرمني مونتي ميلكونيان “غيفارا” أرمينيا
لا يمكن تناول موضوع إقليم كاراباخ دون التوقّف عند اللبناني – الأرمني الشهيد مونتي ميلكونيان (آفو) الذي يعتبر “غيفارا” أرمينيا وهي تكرّمه كبطل قومي وبطل أرتساخ وترفع إسمه على الساحات والمنشآت. فميلكونيان الذي ولد في الولايات المتحدة وتخصص في التاريخ الآسيوي القديم وعلم الآثار، عاد خلال الحرب اللبنانية الى بيروت حيث شارك في القتال ضمن الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا (ASALA) المدعوم من الاتحاد السوفياتي يومها وكان يخضع للتدريب لدى معسكرات نظام حافظ الأسد ولدى “فتح” وياسر عرفات. وأدى صراع الأسد -عرفات عام 1983 الى شرذمة الجيش السرّي. ثم مع بدء الحرب عام 1988 إنتقلت كوادره للقتال على أرض أرمنية بعد أن إنهار الاطار التنظيمي للجيش السري وتحولت كاراباخ الى قضيتهم.
كان “آفو” احد قادة الجيش السري وشارك في اغتيال العديد من الدبلوماسيين الأتراك في أوروبا بين أوائل ومنتصف الثمانينيات وسجن في فرنسا. في عام 1989 أفرج عنه فإنتقل الى ارمينيا، وفي أيلول 1991 بدأ القتال في كاراباخ حيث أسس الكتيبة الوطنية الأرمنية واضحى قائدا اساسياً. “آفو” الذي كان يردد “من دون أرتساخ لا توجد أرمينيا”، استشهد في 12 حزيران 1993.
الإضطهاد والإبادة والتهجير أمور ما زالت حاضرة في وجدان الشعب الأرمني المتناثر في أصقاع الأرض. اللبنانيون من أصل أرمني الذين وجدوا في لبنان ملجأ لعيش إيمانهم وقناعتهم بحريّة، يشكلّون نموذجاً عن إلتزام شعب بتاريخه وهويته، ويجدّدون مرة أخرى إستعدادهم ليكونوا قرابين على مذبح وطن أجدادهم أرمينيا.