باخرة الموت “روزوس” رست في بيروت بقرارٍ مسبق: هل كانت مؤامرة؟
كلما تم التوغل في قضية الباخرة “روزوس” التي كانت محملة بـ 2755 طناً من نيترات الأمونيوم، كلّما ازدادت الشكوك وصارت “فرضيّة المؤامرة” هي الأكثر ترجيحاً.
تبدأ الشكوك من عمليّة شراء رجل الأعمال الروسي إيغور غريتشوشكين لهذه السفينة التي أكّدت التّقارير أنّها كانت متهالكة وغير صالحة للملاحة. هذا ما يؤكده ربّان الباخرة “روزوس” الروسي بوريس بروكوشيف في أكثر من حديث، ولا سيما في مقابلته مع قناة “روسيا اليوم” حين أكد أنّ سبب غرق السفينة في بيروت (بعد أكثر من أربعة أعوام على احتجازها) هو وجود ثقب في أسفلها “وكنّا في حينه نضع مواداً مؤقتة لسدّ هذا الثقب ريثما يتم إصلاحه”. هذا ما يطرح أسئلة بديهية: لماذا يشتري رجل أعمال سفينة متهالكة بسعر يقارب سعرَها خردةً؟ وكيف يخاطر بنقل شحنة يتعدّى سعرها المليون دولار في رحلة طويلة على متن باخرة قد تغرق؟ ثم كيف لقبطان عريق في مهنته أن يقبل بقيادة سفينة تم التحذير قبل سنة، وتحديداً في أيلول/سبتمبر 2012، من وضعها، ومن أن صاحبها لا يدفع أجور العاملين عنده؟
لا مشتري ولا بائع!
يزداد الغموض أكثر عند التأكّد من أنّ السفينة لم تُبحر، منذ أن اشتراها غريتشوشكين، إلّا مرة واحدة في أيلول/سبتمبر 2013 عندما انطلقت من مرفأ باتومي في جورجيا وهي في طريقها إلى مرفأ بايرا في الموزمبيق. هنا تتعدد الروايات والأسئلة: لا قيود رسمية تفيد بأن الباخرة إنطلقت من جورجيا، بل ثمة تقديرات أنها إنطلقت من أوكرانيا أو من أحد الموانىء المتوسطية، وهي كانت قد أوقفت قبل فترة في مرفأ إشبيلية الأسباني لأسباب غير معروفة. حتى رواية القبطان نفسه بأن الفريق الملاحي قرر أثناء وجوده في تركيا الإنسحاب من الرحلة إحتجاجاً على عدم دفع المال لهم، تحتاج إلى تدقيق. إذا كان يعلم القبطان من مصادر متعددة أن غريتشوشكين يعامل البحارة بشكل سيء، لماذا وافق على المهمة؟
الأمر الأكثر غرابةً هو عدم وجود أي أثر لا لمصدر نيترات الأمونيوم ولا للمشتري أو الوسيط. قناة “روسيا اليوم” تشير إلى أنّها تحقّقت من مالكي المصنع الذي صُنِّعت داخله مواد نيترات الأمونيوم في جورجيا، ليتبيّن لها أنّه تم بيع المصنع في العام 2014، أي بعد عام من رسو السفينة في مرفأ بيروت. وأشار المالكون الجدد إلى أنّ لا تواصل مع المالكين القدامى أو حتّى إمكانية التدقيق في الحسابات للتأكّد من هويّة الشخص الذي دفع مستحقّات المصنع بعد شحن هذه المواد، وهذه النقطة تطرح إشكالية التعتيم على كل أوراق الشحنة والباخرة في العديد من المواقع والدوائر الرسمية وغير الرسمية.
هذا الأمر أيضاً ينسحب على الجهة التي كان من المفترض أن تستلم شحنة نيترات الأمونيوم في الموزمبيق (لمصلحة بنك موزمبيق الدولي ومن خلاله لشركة “fabrica de explosives”) إذ تشير معلومات الصحافيين هناك إلى أنّ القائمين على هذا الشركة لم يدفعوا بدل هذه الشحنة بذريعة أن الدفع كان ينبغي أن يتم عند التسليم! وهذا ما يؤكّد فرضيّة قبطان “روزوس” بوريس بروكوشيف بأنّ “المشتري كان وهمياً”!
مالك السفينة يُفضّل الخسارة
أمّا مالك السفينة، فهو أيضاً اختفى بعد أن رست السفينة في مرفأ بيروت، بحسب ما يقول قبطان “روزوس” الذي يشير إلى أنّ غريتشوشكين تخلّى عن السفينة بعدما حصل على مليون دولار كبدل شحن (أكّدت “رويترز” أنّ حمولة السفينة تُقدَّر بـ700 ألف دولار بحسب أسعار العام 2013)، كي لا يدفع مستحقات جمركيّة للسلطات اللبنانيّة لا تتعدى ملايين الليرات اللبنانية (آلاف الدولارات). هل يعقل أن مالك السفينة غريتشوشكين كان قادراً على بيع السفينة التي اشتراها حديثاً وكان يُقّدر سعرها بـ350 ألف دولار آنذاك، لكنه فضّلَ إغراقها؟
وفق رواية قبطان السفينة، فإنّ غريتشوشكين رفض “عرضاً مغرياً” قدّمته إحدى الشخصيات اللبنانيّة بتهريب مواد نيترات الأمونيوم بعد إغراق السفينة عن عمد. هذه المعطيات، إن صحّت، تجعل فرضية أن هذه المواد جاءت إلى بيروت حتى تبقى فيها لمصلحة جهة محددة لم يتم تحديد هويتها حتى الآن.
وفق رواية قبطان السفينة، فإنّ غريتشوشكين رفض “عرضاً مغرياً” قدّمته إحدى الشخصيات اللبنانيّة بتهريب مواد نيترات الأمونيوم بعد إغراق السفينة عن عمد
وبالتالي، كيف تمكن رجل الأعمال الروسي أن يتوارى عن الأنظار طيلة ست سنوات، فلا يصل إليه طاقم السفينة الذي رفع شكوى لمنظمة الملاحة الدوليّة بسبب عدم قبض مستحقاته ولا الجهة التي كان يفترض أن ينقل إليها الشحنة.
أنشأ الشركة.. أفلست الشركة!
وتزداد هذه الرواية تعقيداً عند تعقّب مصير شركة غريتشوشكين التي كانت تمتلك سفينة “روزوس”. إذ أنّ السفينة كانت مستأجرة من قبل شركة “TETO SHIPPING LIMITED” التي تمّ تسجيل وثائق إنشائها في جزر مارشال المعروفة بشبكات الفساد وتبييض الأموال، في العام 2012 (قبل عامٍ واحد من إبحار السفينة)، ثمّ ما لبث غريتشوشكين، وبحسب السجلّات الدوليّة، أن أعلن إفلاسها بعد عامين فقط، أي في العام 2014، وتحديداً بعد أشهر من احتجاز السفينة في بيروت في نهاية تشرين الأوّل/أكتوبر 2013. لماذا قرر إفلاسها غداة إحتجاز “روزوس” في بيروت؟
وإذا كانت جزر المارشال “نفضت يديها” سريعاً من شركة غريتشوشكين، فإنّ رواية نائب مُسجِّل الشركات في شركة “TRUST COMPANY OF THE MARSHALL ISLANDS IN MAJURO” التابعة لجزر المارشال، تزيد الشكوك أكثر. يلفت جيمس ميازو إلى أنّه “بعد البحث في مواقع استخبارات بحريّة متعدّدة نُرجّح ألّا تكون شركة “TETO” هي مالكة السفينة، وإنّما شركة “BRIARWOOD CORP” هي المالك الحقيقي، كاشفاً أنّ هذه الشركة هي “كيان بنمي”، مع ما يربط مالك السفينة بجزر بنما المعروفة بفضائحها في مجال تبييض الأموال وتهريبها، خصوصاً أنّ غريتشوشكين معروف بنشاطاته المشبوهة.
خط سير الباخرة
كلّ هذه التفاصيل تدحض فرضيّة الصدف وترجّح المؤامرة المنظّمة التي كان هدفها الأساسي رسو الباخرة في مرفأ بيروت وترك الحمولة في أرضها. هذا ما يؤكّده خط سير السفينة. إذ يشير “المانيفستو” المفترض إلى أنّها كانت ستُبحر من جورجيا إلى موزميق محمّلة بمادة نيترات الأمونيوم، على أن ترسو في أحد المرافئ للتزوّد بالنفط والطّعام (اليونان).
التغيّر الأوّل حصل عندما توقّفت الباخرة في مرفأ في تركيا، ليتبيّن أنّ طاقم السفينة يرفض الاستمرار في الرحلة. هنا، تمّ التواصل مع قبطان روسي آخر (كان يعمل على متن السفينة قبل بيعها إلى غريتشوشكين) هو بوريس بروكوشيف الذي أراد كسب المزيد من المال بإبحاره إلى الموزمبيق، على حدّ قوله.
لم يشعر بروكوشيف بالقلق عندما طُلِب من طاقم السفينة التوقف في مرفأ يوناني للتزوّد بالنفط والنقود، مع العلم أنّه كان من الأفضل فعل هذا الأمر في تركيا التي توقفت الباخرة فيها قبل أيّام. كما لم يشكّ الرجل عندما طُلب منه التوقّف في بيروت لتحميل معدات زراعية من مرفئها بغية بيعها في أحد المرافئ الأردنيّة لتسديد الرسوم المتوجّبة على مالك السفينة جراء مرورها في قناة السويس، علماً أنّه من المفترض أن يكون القبطان على علم بنوعيّة البضاعة الإضافيّة ووزنها للتأكّد مما إذا كانت السفينة تستطيع تحمّلها، في حين يقول آخرون إنّ شحنة النترات أصلاً كانت تُعدّ حمولة أعلى من الحمولة المقدّرة أن تكون على متن “روزوس”. هنا ثمة فرضيات عديدة بأن سعة حمولة السفينة هي 1900 طن، فلماذا وافق القبطان على تحميلها بـ 2755 طناً، ومن ثم تحميلها المزيد من الأطنان في مرفأ بيروت، قبل أن يكتشف هو وفريقه عدم قدرة السفينة على التحمل وبالتالي تمنعت عن دفع رسومها، الأمر الذي أدخلها في مسار الإحتجاز، قبل أن تغرق بعد أربع سنوات!
بحسب بروكوشيف، فإنّه لم يعلم بأنّ الحمولة ستفوق القدرة الإستيعابيّة للباخرة إلّا بعدما تمّ تحميل المعدات (التي كان من المفترض أن تُسلّم في الأردن)، ليتبيّن أنّ “باب الخزان قد انخلع إذ كان صدئاً وضعيفاً، بالإضافة إلى تقوّس في الباخرة”! فيما يبرّر بروكوشيف خطأه بأنّه “كان يجب التدقيق في وزن الحمولة مسبقاً”.
كلّ هذه الأحداث المُستغربة تطرح الكثير من الأسئلة، لتؤكّد أنّ الوجهة الحقيقيّة للباخرة كانت بيروت وليست موزمبيق! علماً أنّه حتى اليوم لم يتطرق أحد إلى هوية الشركة التي كانت تريد بيع المعدات الزراعية المتوجهة إلى الأردن وماذا حصل بالمعدات وهل شحنت على متن سفينة أخرى إلى الأردن أم ألغيت العملية كما حصل مع شحنة نيترات الأمونيوم؟
روايات كثيرة لراوٍ واحد
وبالإضافة إلى كلّ ما سبق، لا يمكن إغفال تضارب الروايات التي يقدّمها يومياً القبطان بروكوشيف من خلال العديد من وسائل الإعلام المحليّة والدوليّة. الرجل تحوّل، بعد انفجار بيروت، إلى نجم الشاشات عن بُعد. ولكنّه في كل مرّة يضيف القليل من التفاصيل على روايته السّابقة حتّى تصبح في تفاصيلها متضاربة مع بعضها البعض.
على سبيل المثال، قال القبطان لقناة “بي. بي. سي” البريطانيّة في 8 آب/أغسطس الماضي إنّ “وضع السفينة كان جيداً عندما تركتها في المرفأ وعدتُ أدراجي”، فيما يعود ويشير في مقابلة مع “روسيا اليوم” في 14 آب/أغسطس الماضي إلى وجود ثقب في أسفلها وتخلّع في باب خزانها.
وأشار في مقابلتين مع قناتي “الجديد” و”إل. بي. سي” إلى أنّه لم يستغرب أمر تغيير الطاقم في تركيا وطلبه من قبل مالك السفينة من روسيا، قائلاً لـ”الجديد”: “لم أسأل لماذا رفض الطاقم السّابق إكمال الرحلة إلى موزمبيق”، ليعود ويكشف في حديثه مع “روسيا اليوم”، وجود قبطانيْن للسفينة في الوقت نفسه عندما رست في تركيا “وهو أمر مستغرب”، على حدّ قوله، مضيفاً على روايته السابقة إنّ القبطان السابق رفض الإبحار إلى موزمبيق بسبب انتهاء صلاحيّة أوراقه (وليس لأسباب مادية)!
وفي مقابلته مع قناة “الجديد”، أشار بروكوشيف إلى أنّ غريتشوشكين كان سيتقاضى مليون دولار في موزمبيق مقابل شحن حمولة النترات، ليعود ويشير إلى أنّ مالك السفينة تقاضى المبلغ مسبقاً.
أمّا عن علاقته بمكتب المحاماة في بيروت، فقدّم بروكوشيف الكثير من الروايات. مرّة يقول إنّه تعرّف على المحامي محمّد غازي زعيتر مباشرةً والأخير عرّفه على “مكتب بارودي للمحاماة”، قبل أن يقول إنّ جمعيات كانت تتكفّل بتقديم الطّعام له ولطاقم الباخرة خلال فترة احتجازهم، هم من أوصلوه بزعيتر. وفي رواية ثالثة تدحض ما سبقها، يلفت الإنتباه إلى أنّه نسي الشخص الذي أوصله بزعيتر.
في المقابل، فإن نجل وزير الأشغال العامّة والنقل السابق سارع إلى إصدار بيان ينفي فيه صلته بباخرة “روزوس”، فيما كان بروكوشيف يحمل على قناة “الجديد” بطاقة التعريف الخاصة بمكتب بارودي التي خطّ عليها رقم زعيتر الخلوي بخط اليد، فكان لافتاً للنظر احتفاظه بالبطاقة كما هي لأكثر من ست سنوات!
“شاهد ما شافش حاجة”
الكثير من الأمثلة التي تدل على تضارب الروايات لدى ربّان الباخرة، قد يكون بعضها ناتج عن نسيان التفاصيل أو خطأ في الترجمة، ولكن هل يكون بروكوشيف فعلاً “شاهد ما شافش حاجة”؟ هو الذي أصرّ (قبل منع السّلطات اللبنانيّة الباخرة من مغادرة مرفأ بيروت) على الرضوخ لطلب مالك السفينة بأن يبحروا إلى قبرص فيما رفض بقيّة الطاقم الأمر.
إذاً، السؤال الأهم المرتبط ببروكوشيف هو علاقته الحقيقية مع إيغور غريتشوشكين، الذي اتّصل به طالباً منه قيادة السفينة إلى موزمبيق. وفي مقابلته مع قناة “الجديد” مرّ عرضياً على قوله “إنّني عرّفتُ (غريتشوشكين) على الباخرة” على اعتبار أنّه كان يعمل على متنها قبل العام 2012. والمُلفت أنّ بروكوشيف يشير في مقابلات أخرى أنّه لم يكن على علاقة مباشرة مع غريتشوشكين وأنّ الأخير قطع التواصل معه حينما احتُجز طاقم السفينة في بيروت. في حين أن روايته لـ”روسيا اليوم” عن الرجل اللبناني الذي عرض عليه شراء مادة النترات تشير إلى أنّه تواصل مباشرةً حينها مع غريتشوشكين الذي رفض هذا العرض!
الكثير من الأمثلة التي تدل على تضارب الروايات لدى ربّان الباخرة، قد يكون بعضها ناتج عن نسيان التفاصيل أو خطأ في الترجمة، ولكن هل يكون بروكوشيف فعلاً “شاهد ما شافش حاجة”؟
وإذا كانت العلاقة بين الربّان والمالك مريبة، فإنّ رسو الباخرة في بيروت مريب أكثر. كلّ التفاصيل المرتبطة بها تشي بأنّ الأمر أكبر من الإهمال الذي ارتكبه المسؤولون في لبنان بتركهم مواداً شديدة الخطورة من دون توضيب، في مرفأ العاصمة.
النقطة الأخيرة تتصل بالجهات الدائنة ولماذا إختارت لبنان لرفع دعاوى ضد غريتشوشكين. من هي هذه الجهات وهل هي أجنبية أم لبنانية أم مزيج من الإثنين؟
خطورة كلّ الأمور المتعلّقة بهذه السفينة أنّها تُشبه في معالمها أعمالاً لا يقوم بها مجرد أفراد، وإنّما مافيات ودول. “رؤوس” كانت تُخطّط منذ أعوام لإبقاء نيترات الأمونيوم في بيروت بانتظار السّاعة الصفر.
دقّت ساعة الصفر في 4 آب/أغسطس 2020، ولكن يبدو أنّ نتيجتها كانت أكبر ممّا هو مخطّط لها، ومثلها تماماً كانت “الهبّة الدوليّة” غير متوقّعة بـ”عواطفها الجيّاشة” تجاه لبنان.
المصدر: لينا فخر الدين post 180