“شتورا، بيروت، بيروت بعلبك” (بقلم عمر سعيد)
” شتورا، بيروت، بيروت بعلبك ”
يعلو على سواه صوت السائق ، أو مساعده، في ساحات تغص بعشرات الڤانات، التي تتسابق على اصطياد الركاب، بعبارات :
” وين معلم؟ بدي بس راكب واحد، وبمشي، طلاع ”
تتكرر العبارت، وقد خطا قائلها عدة خطوات إلى جانب أي سائر على قدميه بالقرب من ڤانه، ليكتشف لاحقاً، أن السائق، تضطره الظروف إلى قول ما لا يفعل، وقد أخذ يلف بحافلته لعدة دورات في في تلك الساحات، بحثاً عن راكب آخر، فارضاً على الذي دخل جوف الڤان بتشاطره وتذاكيه قرابة نصف ساعة من التأخر عن أي التزام أو عمل، ارتبط به.
يجلس الراكب في جوف حوت يسبح في طرقات الحاجات وتكاليف الحياة عاجزاً..
لا يملك إلا واحداً من خيارين :
– كظم غيظه وانزعاجه وتصبره على دورات الحوت اللولبية بحثاً عن راكب إضافي.
– أو اتخاذ قرار النزول، والوقوع في حبائل سائق جديد بدورات جديدة، وتأخر إضافي.
لتنتطلق الحافلة في اتجاهها بمشادات كلامية بين الركاب والسائق، يتخللها تهديد متبادل بالنزول من الحافلة، وتبريرات السائق بالحاجة إلى مزيد من الركاب لتأمين تكاليف الرحلة، والكل معذور في دوافع وتوتره.
وما أن يقطع الحوت المليء بالتناقضات والتوتر مئات الأمتار، حتى يتعالى صوت المسجل، يفرض على الركاب طائفة السائق، وثقافته، وأيديولوجيته، وانتمائه السياسي، وغيرها من أمور التي لا طاقة لأحد منهم بها.
فإن علا صوت المنشد على بركات، عرفت كراكب أنك في ڤان شيعي، وعليك التزام الصمت طوال الطريق..
وإن علا صوت المسجل بأناشيد يوسف إسلام، أو أحمد الحبشي، عرفت أنك في ڤان لسائق سني، والويل لك إن تجرأت، وطلبت من السائق خفض الصوت قليلاً..
ستبحث عيونه عن مكانك من خلال المرآة، ليلقنك درسا في الدين والأخلاق.
وإذا انطلقت من المسجل أغاني علي الديك، أو أغاني لون الساحل السوري التي انتشرت في مجتمع الفانات، عرفت أنك مع سائق ڤان قد أكثر من الشرب، وسيقود بسرعة جنونية وتهور، يجعلانك متوتراً متشبثاً بحواف مقعد، يظل طوال الطريق يئن، ويزعق لتصدعه من تحتك، و وطفة من حولك متورطة ” ما بتعرف تقلي بيضة ”
في تلك الحيتان المفلوتة على راسها، تعيش مشاعر، لن تكتشفها، إلا إذا صعدت واحداً من تلك الڤانات التي لا انفكاك عن التورط فيها إذا ما عبرت يوماً تلك الساحات سيراً على قدميك.
في تلك الڤانات تمارس عليك كل انتهاكات الحقوق، وأنت لاحول لك، إلا التصبر والتحمل أو النزول في وسط الطريق.
ولأن غالبية سائقي الفانات أشخاص بسطاء مساكين فرضت عليهم الحياة تجاربها القاسية، تراهم على استعداد لشتم أي ركاب وإهانته والتعدي عليه دون أي رادع قيمي أو اخلاقي،
ولا يتوانون عن تهديد حياة ركاب أي سيارات يتجاوزونها في الطريق، مرة بحشرها، وأخرى بحركة مسيئة من إصبع أثناء التجاوز،
ناهيك عن التوقف المفاجىء لأجل راكب مشتبه به، وإن كلف الأمر حادث سير.
كل ذلك لأن قطاع الفانات قطاع لا يخضع لرقابة أو تنظيم أو توجيه من قبل أي جهة من الدولة؛ التي لا نراها إلا داخل جدران مبان رسمية.
فلا جهة تراقب مظهر السائق الشخصي، لتفرض الحد الأدنى من النظافة والأناقة المطلوبة للحياة العامة..
ولا جهة تشرف على تدريبه، لتمكنه من سلوكيات المهنة التي تجعل من حافلته مجتمعاً متنقلاً، يعي مسؤولية تنوع الركاب فيه، ولا جهة تراعي ضوابط الذوق العام ومتطلبات التفاوت الثقافي والنفسي في الحافلة.
قد تكون مجرد رحلة لساعة من الزمن في ڤان ركاب شعبي، غير أنها أشبه بتوقيف تعسفي في نظارة بمساحة أربعة أمتار ونصف. تستنزف مشاعر الراكب الواعي، الحساس ومزاجه، ليغادرها بعد الوصول لاعناً الساعة التي جعلت هذا الڤان من حظه، في واقع أقل ما يقال فيه أنه لا شيء فيه واقعي.
عمر سعيد