إيران تعيد العراق إلى عصر ما قبل الزراعة
بعد 15 سنة من احتلال العراق وتشكيل الحكومات المتتالية، تتجه الأنظار إلى تشكيل حكومة جديدة تمضي بالأحزاب المركزية أو بنظام المحاصصة الطائفية والسياسية إلى بر آخر للأمان، يضمن لها دورة من أربع سنوات بذات المعايير والمناهج والزعامات المفرطة أو المعتدلة بولائها لولاية الفقيه التي تريد أن توصل إلى جمهورها، المتكتل حولها، ما تجود به من إرشادات بدائية عن الوطن وكيفية إدارته.
الوصول إلى بر الأمان الخاص بحكومات الاحتلال يتطلب الإبحار بمركب العملية السياسية، أي بالدولة والقرار السياسي والحكومي والنيابي والعسكري وقدرة التعبئة حسب الطلب والمهمات، وكذلك بما تستحوذ عليه من إعلام، وحتى ما يتصل بها من شائعات تعتبر في المغزى العام الشغل الشاغل لها، لحجم ما تحصده من ترويج يمدد من إطالة أمد الوضع القائم الذي يسعى فيه النظام السياسي إلى إعادة وتدوير وتنشيط مدخراته التنظيمية والأيديولوجية قاصدا طرحها كأسهم استثمارية في شركات فرعية ناشئة وبعناوين عريضة وجديدة.
عناوين تصب خواتيمها في المشروع الأساسي الذي تتوسع فيه مساحة الاهتمام بالنظام على حساب هامش ازداد انحسارا إلى درجة ضاغطة، بدت فيها أوضاع شعب العراق متردية وخانقة لا تنفع معها الإسعافات السياسية وإجراءات المناقلة مع ما رافقها من ضجيج تعالت فيه الأصوات، أحيانا، للتنبيه إلى احتمالات تمرد الهامش كرد فعل للإحباط المتناهي واليائس من انتظار صحوة الإصلاح وبناء دولة على مقياس ذاكرة وطن مازال أبناؤه، على الرغم من كل أشكال التردي والانحطاط العام، يدركون مكانته التاريخية والعلمية والإنسانية مع ثقتهم بما يتوفر له في حاضره من ثروات طبيعية.
لكن ذلك لا يمكن استثماره إلا في بيئة منتجة ومستقرة ومواكبة ومتقبلة لاستراتيجيات العلوم والمعارف في التجارب العالمية المطروحة كسوق مفتوح للتبضع لمن أراد امتلاك رؤية التغيير.
مغزى أي بناء لن يكتمل ثم يستمر وينمو ويتعاظم إلا بأرضية فكرية صالحة وتخطيط يعتمد على تراكم الخبرات وتكامل التوجهات والإرادات نحو الهدف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بالتعويل على عمل مشترك ومتفان لتجاوز الخلافات والجدل حول الاستحقاقات التي تجري على مقربة من عاصفة أسرفت في إنذاراتها ودخلت مرحلة الذروة.
العراق، ومن قريب ذاكرته، تلقى من وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق جيمس بيكر تهديدا وتحذيرا بإعادته إلى ما قبل العصر الصناعي، لكن الحقائق في احتلال العراق بعد 13 سنة من تلك المقولة وبأثرها في السياسة الدولية، أدت إلى انعطاف خطير على صعيد إشهار إزالة دولة العراق وترحيلها من العصر الحديث إلى قرون مضت.
إلا أن 15 سنة بعد الاحتلال الأميركي كانت حقبة زمنية لدور الاحتلال الإيراني الذي تسلل في وضح النهار من بين الأصابع الأميركية المتواطئة والمتراخية، أعيد فيها العراق إلى ما قبل العصر الحجري الحديث، أي إلى ما قبل معرفة الزراعة والاستقرار. ذلك ليس سخرية أو تهكما من الأدوات الإيرانية المحتكرة لمصير السلطة في العراق، بل هو وقائع تضافرت على صناعتها الحكومات المتعاقبة لحزب الدعوة، مع عناصر عشوائية أخرى من أحزاب أُصيبت أساسا بعدوى الانقسام الطائفي.
الأحزاب الطائفية وجدت في استيلاء الخميني على السلطة في إيران دافعا، وبمشروعه المبني على احتلال العراق غاية لها، والأكثر تحديدا احتلال كربلاء والنجف وباقي الأوقاف المذهبية.
احتلال يعتبر بالنسبة لملالي طهران بداية تنطوي على الاستيلاء على وقود الفتنة الكبرى، لخلق مفاضلة عددية في الزيارات الدينية ترسيخا للتفرقة وتعميقا لمشاعر الخلاف المذهبي بين المسلمين.
وما يتصل بذلك الاحتلال المتحقق من أهداف سياسية معادية للعرب في العراق، نجحت ولاية الفقيه في تسويقها بالحرب الأهلية سنة 2006، أو بالاستهداف الديني المعلن للمملكة العربية السعودية لتقويض الأمن خلال مواسم الحج وبإثارة الفتن المذهبية تحت أغطية سياسية في دول عربية أخرى.
الأرض الطيبة، تكالب عليها الجراد الأصفر الذي لا هم له سوى قضم الثروات والتعامل مع أبناء وادي الرافدين كأعداء، إما لكونهم قاتلوا ضد العدوان الإيراني والكثير من هؤلاء تعرضوا للتصفيات الجسدية والتهميش والتخوين أو الإهمال على أقل تقدير، وإما على أساس التمييز بالولاء المذهبي، والأخطر توجسهم من الدماء العربية في ما يعتقدونه ضمانة لمعسكر فتنتهم الطائفية التي انتقلت في السنوات الأخيرة إلى مشروع إرهاب عالمي، إلا أنهم أصيبوا بالصدمة من انتفاضة أهلنا في الجنوب وما جرى في مدينة البصرة من أحداث من بينها إحراق القنصلية الإيرانية.
العديد من دول العالم لا تريد رؤية حقيقة انهيار الدولة في العراق وتراجعها إلى حدود ومقتربات عصر الصيد بأنواع الأسلحة مع كواتم الصوت والخوف المطلق، حيث نصف الزراعة ألغي بسبب شح المياه مع ارتفاع درجات الحرارة إلى أعلى معدلاتها عبر تاريخ الطبيعة المنتجة للحياة.
هجرة ونزوح لأسباب بيئية، انقراض أنواع متعددة من الطيور والأسماك، نفوق للثروة الحيوانية بمعدلات استثنائية، تلوث مياه واسع يحتاج إلى تدخلات دولية وإغاثية عاجلة، إبادة للنباتات والمراعي الطبيعية، إضافة إلى تراجع الصناعة والقطاعات الحكومية والخاصة وتراجع الثقة بالمصارف وما تبقى من مقومات التعليم والصحة.
عواصف من الفساد تشيع المزيد من التصرفات المضطربة في ظواهر لا صلة لها بالإرهاب، لكنها بالأرقام والإحصاءات تسجل حضورا في إسقاط أي دولة وتحويلها إلى ما صار إليه العراق من مرتع خصب للعصابات والميليشيات وتجار الدم والحروب الصغيرة والنزاعات الخفية والتربص للآخر، أيا كان في متاهة من العائديات القومية والدينية والمذهبية.
إصرار في العراق على تشكيل ذاكرة انتقام متبادل لا تتوقف عند حدود ما حصل من خسائر، إنما تكرر دورتها بالاستئثار بالقوة والسلطة، نزولا إلى صيغة أقليات مسلحة وسرقات وأتاوات حتى في المدن المدمرة كالموصل، بما يعيدنا إلى الأجواء السائدة ما قبل احتلال تنظيم داعش لها.
ماذا تبقى من العراق، حتى يصار إلى تأهيل النظام والعملية السياسية للمحتل، بشخصيات انتهت إلى مأساة فكرية عندما ارتضت أن تضع تحصيلها العلمي في قبضة التعصب للمذهب، وسمحت لنفسها أن ترفع السلاح “ببطولة” ضد وطنها الأم، وتسمح لنفسها كذلك بأن تلتقي بزعماء الميليشيات لتبحث معهم وبهم بناء العراق الذي يحتفل دائما بالمستقبل على طريقة العزاء.
حامد الكيلاني – العرب